------------ --------
Share |

أقبية الموت السرية








بين أنقاض حرب كونية، وبداية عالم جديد تتسرب آثار الدمار كبركة زيت لزجة في مياه البحر.. لا يعير لها العالم عظيم اهتمامه كلما زحفت باتجاه العمق معتقدا بأنها ستتلاشى من نفسها، ثم يختفي أثرها.
لكن الحقيقة عكس ذلك إذ يتعدى تأثيرها في تكوين المجتمع الإنساني الجديد ثم يمهد ،وان كان ببطئ لكارثة إنسانية قادمة . هذا ما حصل بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وخروج ألمانيا منها منهزمة حيث توزع ارثها وانجازاتها في مختلف الميادين من العسكري و المخابراتي وكفاءاتها العلمية النادرة تقاسمها المنتصرون في المعسكرين. كان للألمان صولات وجولات في أقبية الموت والتعذيب والتجارب اللانسانية على البشر أسست كما يقول الكاتب الأمريكي كينيون غيبسون نواة اعتي أجهزة المخابرات في العالم وهو ال ( CIA ) . فماذا كانوا يفعلون ؟.
البعض القليل جدا حاول الفلم الجرئ السوداوي (Shutter Island)
الذي أدى دور البطولة فيه ليونارد دي كابيريو الإجابة عليه. هو اخذ عشرات الناس كفئران تجارب الى جزيرة نائية يحيطها الرعب والخوف وبعيدة كل البعد عن عيون الفضوليين والعمل عليهم مثلما يحبون . حيث كل شيء فيها متاح ومسموح به بلا رقيب أو حسيب.
يتورط المحقق (مارشال دانييل ) الذي يمتطي موج البحر العاتي ويتحمل دوار البحر ، وهو مثخناً بجراحه التي لا تتوقف من مصيبته بأسرته التي فقدها في حادث حريق يتهم به شخص اختفى بعده.
المحقق مارشال دانييل هو الجندي السابق المعذب بعدد القتلى وما خلفته الحرب في نفسه من مرارة يتولى التحقيق في جرائم تحصل على الجزيرة ويرافقه مساعد لم يلتقيان من قبل في أي مهمة.
يتم تجريدهم من سلاحهم الشخصي قبل ان يخطوا خطوتهم الأولى الى المشفى.. هنا الكل اعزل تحت رحمة الحرس المنتشر في كل مكان والأطباء ومعاونيهم.
بين أقبية مظلمة، ونزلاء لا ينتمون للأسوياء بل كل منهم يعيش عالمه الخاص. وأطباء ومقيمون يخفون الكثير يتيه المحقق الشاب الذي تطارده أشباح الماضي ويعترضه خيال زوجته الشابة لحثه على المغادرة قبل ان يضيع. لكنه يصر. يصر على البقاء لأنه سمع بان من قتلها وقتل صغيرته موجود على هذه الجزيرة. لم يستعرض لنا الفلم بطولات فردية خارقة كما نتوقع في أفلام المغامرات. واثق منكنا في الخلاص من دائرة راحت تضيق وتضيق حول محقق بدا نفسه غير واثق من النتيجة.
يختصر الفلم رسالته التي تتشعب فروعها ، وتفاصيلها في اللقاء الذي يجمع المحقق بسيدة تسكن احد كهوف الجزيرة ، تحمل سكينا أما شعرها الكث الأشعث فيلمح الى أنها إحدى المجانين الهاربين من المشفى . فيعرف أنها النسخة الأصلية عن السيدة ريتشل التي يتحدثون عنها على الدوام تلك التي قتلت أولادها ثم عادت لتتناول طعامها كان شيئا لم يكن.. هذه القصة التي تكررت مشاهدها مرات وبطرق متعددة .. الم يكونون يذكروننا بالإكراه بأولاد جوزيف كوبلز الأبرياء الذين قتلوا جميعا بعد تأكد هزيمة هتلر فصفوا بملابسهم الأنيقة النظيفة الى جانب بعضهم البعض وهم يؤدون تحية الموت لمن سرق منهم حلم الحياة في مشهد يدمي القلب الى جانب كل مشاهد قتل الأطفال بالعالم.

عندما يعرف ان القصة كلها من نسج خيال الأطباء والعاملين على الجزيرة وان السيدة التي ادعوا بأنها قتلت أطفالها ، لا بل احضروا من قامت بتأدية هذا الدور أمامه في البداية ليست متزوجة ، وليس عندها أطفال، ولم تقتل احد نضيع في متاهة لا مخرج لها. تعود هي بدورها لتنتشلنا بتصريحها الأخطر.. إنا طبيبة عملت معهم لوقت طويل واطلعت على تجاربهم، وأبحاثهم وكيف أنهم يقصون من لا يوافق عليها أو يعترض. يظنون بأنهم قتلوني لكنني استطعت الهرب..ثم تحيله الى السؤال الأهم هل لديك صداع .. هل تعاني من مشاكل و لأنه لا يستطيع الإخفاء فقد اخبر مساعدللاستغلال. ماتت. تقول له سيستغلون نقطة ضعفك للنيل منك .. كلنا بنقاط ضعف هذا يرد وهكذا هي الحقيقة لذا فكل منا معرض للاستغلال .
أحداث الفلم التي اعتمدت كثيرا على الذاكرة والأحداث الماضية وتعمدت الخلط بأوراقها وتشابكها..خلقت لمشاهدها كوابيس متسلسلة طيلة الفترة التي أمضاها الفريق الطبي في تدجين المحقق بالأدوية والروايات المختلقة والإيحاءات ودفعه ليكون من المرضى النفسيين .. لكنه بعد مضي وقت طويل يجلس على عتبة المشفى في نهاية الرحلة الى جانب مساعده الذي يعمل مع الآخرين . يحسم أمره بأنه غير مستسلم لا للمرض النفسي ولا لتصديق رواياتهم. يومئ المساعد لسادة الجزيرة من بعيد ان لا فائدة ترجى منه.. ببسالة الجندي يختار المحقق ان يدفع بجسده لمشارط الأطباء الجزارين يعبثون به في قلعتهم المخيفة ومختبراتها المخفية عن العيون ، فهو غير قابل لمساومة .. لعلها البطولة الوحيدة التي تتسم بالمعقولية في عالم إجرامي يحيط به واحكموا غلق نوافذه، أوراقه أعدت بعناية لكي تدون انه نزيلهم. وقصته كتبت بما يتناسب بعدم إعطاءه أي أهلية لمقاضاتهم، أو النيل منهم. والمركب الوحيد الذي يأتي ويذهب الى جزيرة الدمار هذه تحت أعينهم ، لا يمكن التسلل منه أو إليه دون موافقتهم .
اختار ان يعبثوا بجمجمته في تجاربهم الوحشية على البقاء دمية يحركونها كما يشاءون وذهب بينما لحقت به مجموعة الموت. توقف شريط الفلم الذي دارت أحداثه كما لمحوا في 1952 بعد الحرب بسنوات قليلة لكن عشرات أسئلتنا بدأت من جديد تلح في طلب المزيد من الحقائق .
من يطلع على السجلات النازية الرهيبة ، وتجاربهم المرعبة على البشر ، وصنائعهم يستطيع ان يتأكد بان الفلم كان معرضاً متحركاً لبعض صوره البشعة . ان ما تركوه هؤلاء القتلة وما ألهبوا به مخيلات مريضة في القتل والتنكيل والتعذيب من بعدهم في أقبية الموت والتعذيب لأجهزة أمنية في دول مستبدة عديدة يعجز عن وصفه لسان.
يبقى ان لا نغفل ونحن نتطلع الى هذه الحقائق بسلسلة كوابيس لم تهدأ طيلة عرض الفلم. بأنه وثيقة حية عن بشاعة النظام النازي وما تركه للإنسانية من عار وإجرام. لم يتناول الفلم أي أحداث سياسية ، ويتاجر بها ، لم يتعرض لأي قضية تدفع المتلقي لإصدار أحكامه الجاهزة عليها بل عرض الحقائق كما يفعل مشرط جراح وهو يستعرض ورماً سرطانياً ظل لزمن طويل محفوظا على الرف ، وشرح حجمه ومكانه بعناية موضحا بعض أثار دماره . وترك للمتلقي وحده تقدير مدى خطورته ان ظهرت أعراضه مجددا. أو سكتنا عن أعراضه في حالة ظهورها من جديد.
بقي ان نتذكر ان ليونارد دي كابيريو ينشط هذه الأيام في مجال سينما أطلقت على نفسها سينما السلام .. ويحاول تقديم ما من شأنه تعزيز السلام والمحبة في العالم.
د. شـــــــذى




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

-----
Share |
------