الصاحب بن عباد
لو أدركت عبد الرحمن بن عيسى الهمذاني مصنف كتاب الألفاظ الكتابية ، لأمرت بقطع يده،
فلما سئل عن السبب قال:
’’ لأنه جمع شذور العربية الجزلة في أوراق يسيرة ، فأضاعها في أفواه صبيان المكاتب ،
ورفع عن المتأدبين تعب الدرس والحفظ الكثير’’.
اليوم من يقرأ هذا يضحك .. لا بل يستخف به حيث لم يعد احد من الصبية يفتح الكتاب أصلا. بالمناسبة ليس فقط في البلاد العربية او الشرقية بل حتى الغربية صارت الكتب المقررة لا تصفح ويتبارى المعلمون بالبحث عن طرق ووسائل تعليمهم المقرر بأبسط الطرق ،وأكثرها تشويقا دون الاعتماد على الكتاب!.
لكن هذا ليس موضوعنا بل الموضوع الذي رغبت من مقدمتي التطرق له هو سياقة الشواهد على أمور كادت تصبح بديهيات... بل لا يلتفت إليها احد. مثل أعلام النهضة وعطائهم الثر في إيقاظ الشعوب العربية التي كانت غارقة بالجهل والأمية في القرن العشرين . فلو سمع ال الياس بكلام الهمذاني لما صار بين أيدي متعلمي اللغات قواميسهم اللغوية التي فتحت أفاق المعرفة للاطلاع على اللغات الحية الأخرى.
ولو لم يكن بتاريخنا أعلام النهضة من المسيحيين في كل من لبنان وسوريا وفلسطين ومصر والعراق .. من الذين احتكوا قبل غيرهم بالحضارة الغربية ، فاحضروا المطابع وساهموا بالنشر لما بدأت اي بوادر حقيقية لشعوب المنطقة للتخلص من الاستعمار... والبحث عن هويتها ومستقبلها وان تعثر كل ذلك كطفل يحبو ثم يهرول ويعود فينكفئ ليحبو لأسباب اجتماعية وسياسية من العسير اختصارها هنا.
البحث في قائمة هؤلاء الأعلام يقود من فقد مروءة الأنصاف وحس العدالة الى أسماء لا يمكنه تجاهلها والتعتيم على حضورها القوي . فباستعراض سريع نجد بان مؤسس المسرح المصري الحديث هو نجيب الريحاني المسيحي من أصل عراقي حيث وضع وزوجته بديعة مصابني اللبنانية و السورية الأصل اللبنات الأساسية لأول مدرسة فنية خرجت الأسماء التي ما زالت روائعها الفنية الى يومنا هذا.
وفي الأدب سجل جبران خليل جبران اسمه في قائمة الأهم بين أدباء وشعراء العالم. ورسائله حبه العذري مع الأديبة مي زيادة سطرت للحب العربي فصولا انضمت لأحلى قصص الحب وأشهرها على مر التاريخ. لن تنتهي قوائم الأدباء والشعراء إذا ما بدأت بها ،ولكن الا يكفي العالم اقصد كل العالم بان العرب يصحون على صوت كروانهم فيروز كل صباح ويتناولونه مع أول فنجان قهوة بكل شهية!.
إضافة الى روائع الشعراء من المسيحيين ،والكتاب .المثقفين .الفنانين ..هناك العلماء والأطباء . فاليوم يفتخر العالم العربي بالدكتور احمد زويل ونوبله بالكيمياء والحقيقة انه العالم الثاني بعد الدكتور العربي اللبناني الأصل بيتر مدور. حيث حصل على نوبل بالطب عام 1960 فتجاربه وأبحاثه ساهمت في فتوحات لاحقة في علم زراعة الأعضاء ،والارتقاء بالطب،ودوره في إنقاذ حياة الإنسان .
النماذج أعلاه قطرات ندى من سماء حبلى بعطاء لم ينضب من أبناء الديانة المسيحية الحالمة بنهضة شعوبها والعاشقة لأوطانها، والمعتزة بها... وإلا ما كانت لتقدم كل هذا البذل والعطاء السخيين لو لم يكن همها الإنسان والخير له آيا كانت ديانته وطائفته.
وككل الأحداث التي تتسارع وتتلاحق أصاب العلاقة المسيحية مع باقي الطوائف بأوطانها الكدر. فبروز التيارات الإسلامية المتشددة لم يكن وبالا على المجتمع المسلم الذي راح يحصد أرواح أبنائه ويدعو الى تقييد حريته والعودة به الى الوراء فحسب، بل ساهم بأعماله العنيفة ،واعتدائه السافر على مجمل الحريات والمسيحيين والمرأة .. ساهم كل ذلك الى بروز تيار مسيحي يقارعه العداء بنفس الوسائل والأساليب وان كان إعلاميا على الأقل.
فرغم تعاطف الكثير من المثقفين مع القنوات التي كرست رسالتها للنيل من الإسلام ونبيه أول الأمر معتبرة ذلك جزء من حرية الرأي الا أنها تمادت لحد الرغبة بنسف كل أسس الديانة الإسلامية بطريقة استفزازية متناسين بان الديانات تشكل الى حد كبير تاريخ الشعوب وفلكلورها وعاداتها وتقاليدها.. ومن المتعذر سلخ الشعوب عنها مهما كانت الأهداف والنوايا طيبة وراغبة بإخلاص بخلاصهم كما يردد المبشرون على الدوام!!.
وراحت رسائلها المتشددة تثير الضغينة بنفوس الكثير من المسلمين، ولأنها قنوات تبث من أماكن أمنة في أوربا وأمريكا ،فهي بعيدة عن المواجهة التي يتلقاها المسيحي البسيط الذي ربما لا يعرف أساسا بوجودها، وتبدو المعارك الطاحنة بينها وبين التشدد الإسلامي تجاوزت كل حدود التجاور ، وتحولت الى استفزاز يبررونه على الدوام بترديد عبارات والاستشهاد بآيات وأحاديث لم يكن ليلتفت اليها من قبل والا ما كان المسيحيون ليحيوا الى جانب المسلمين 14 قرنا ، وما كانوا ليحققوا نهضة ببلدان لم تحيل بينهم وبين إعطائهم زمام القيادة في المجالات التي أبدعوا فيها، ولما وجدت أصلا أرضا خصبة ومعبدة لقبول إبداعاتهم الفكرية والفنية والثقافية والأدبية.
فلم محمد رسول الإسلام الذي عرف أخيرا بانه من إنتاج مجموعة من أقباط أمريكا
بعض مشاهده محملة على الرابط التالي
http://schataly.blogspot.de/2012/09/blog-post.html
...باختصار هو واحد من هذه الرسائل السلفية المسيحية ولم اجد وصفا اقرب منه لنعت صانعيه .فهم اظهروا تطرفا وتشددا لا يوازيه الا تطرف السلفية . فالفلم إضافة لكونه ضعيف . هش .رديء العرض والفحوى ومفكك التفاصيل ، وبدائي الصنع يدل على رعونة وسذاجة ، وسطحية من قام بكتابة السيناريو ـ هذا أصلا اذا كان فيه سيناريو ـ ومن قام بأداء أدواره الإشارات والتلميحات الجنسية التي وردت به لا تليق بمسيحي الشرق والغرب على السواء لأدائه. فكيف يدعون خدمة المسيح والرب ، وهم يؤدون حركات ومشاهد لا تليق بأخلاق وسلوك المسيحي الذي عرفنا عنه دماثة الخلق ، والرغبة بالتحلي بأخلاق المسيح، وتطبيق وصاياه بحب من يعاديه .... وكل وصاياه الإنسانية التي تدعو الى المحبة والسلام.
الفلم لم ينل من شخصية النبي محمد بكل المقاييس. لقد غفل صانعوه عن حقيقة شديدة الأهمية الا وهي ان المبالغة تدفع المتلقي الى استلام رسالة معاكسة لما أريد بثها. لقد دفع الكره بالمتشددين والمتعصبين والحاقدين صانعي الفلم الى الإسراف بالمبالغة في النيل من النبي محمد مما منح المشاهد إحساسا بالتقزز والقرف ، والنفور منه .... فما الذي حصدوه ؟.
تماما مثلما حصل مع الرسوم الكاريكاتورية انتابت المسلمين مشاعر غضب عارمة. وهل يمتحن المسيحيون المتشددون سطوتهم وقوتهم في هذه المرحلة بالذات بينما تحكم التيارات الإسلامية قبضتها على السلطة في كل البلدان العربية التي غيرت أنظمتها الثورات الجماهيرية مثل تونس ومصر وليبيا. ما الذي تريده التيارات المسيحية المتشددة بعرض فلم لا تزيد عباراته وفحواه عن التكرار الدائم لنفس الحجج والنصوص التي يراد منها تشويه صورة النبي محمد في نظر العالم. ولكن هذه المرة بوقاحة اكبر وان جاء بمشاهد تمثيلية لممثلين هواة لا يتسلحون بموهبة تعينهم على أداء شخوصهم بل كره لا يقبل به الدين المسيحي ولا يدعو اليه بل ينكره ، ولا يحترم حامله والمنادي به.
يتمنى كل محب للسلام اليوم ان لا تتصاعد موجات العنف التي تغذيها التيارات المتشددة في البلاد الإسلامية عموما ،والعربية خاصة. ويتمنى كل إنسان يرغب بالتعايش مع الأخر ايا كانت معتقداته ، وصفاته أن لا تتفاقم المسألة لتكبر ككرة الثلج مسببة أضرارا اكبر ، وتوتر العلاقات ما بين المسلمين والمسيحيين وان كان العدد الأكبر من كلا الطرفين ليس لهم اي ذنب بما حصل ويحصل.
قد يسوق البعض العشرات بل المئات من الأمثلة التي تضع اللوم على المجتمع الإسلامي . من سرعة الغضب. الى تبني العنف. الى الحروب والقتل الدامي بين أبناء الطوائف لا بل أحيانا بين أبناء الطائفة نفسها.... قائمة قد تبدأ ولا تنتهي. لكن رغم ذلك فالأمر هنا مختلف.
الأحداث الحالية والمشهد السياسي الحالي في اغلب الأقطار العربية لا يسمح بمثل هذا النوع من الإساءة ، ان من صنع الفلم يقود المسيحيين الى محرقة ،ويؤجج نيرانها المستعرة بأطروحات لا تغني المسيحي الشرقي من جوع بحثه عن حقوقه.
لا تؤخذ الحقوق العادلة بإعطاء مبررات للمتشددين من الإسلاميين لإيجاد خطاب يلتف حوله العامة من المسلمين ، ولا يبقى بالساحة احد للاستماع الى صوت العقل والحكمة .
اذا ما استمر التشدد المسيحي فقط رغبة بالتبشير بإنتاج مواد مثل هذه ، رديئة ومباشرة الإساءة فان مسيحيو الشرق وحدهم من سيدفع الثمن . لن يهتم المتشدد الذي حزم حقائبه وأمره على احتقار كل الانجاز الحضاري، والعلاقات بين الشعوب والأديان . واعد نفسه للموت والفوز بحورياته... هذا لا يهمه ما يقوله فرج فوده ولا نصر حامد أبو زيد ولا السيد القمني ولا السعداوي ولا القصيبي ولا ايا من أعلام الفكر . هذا سيخرج للشهادة وهو لا يعرف احد سوى من سلحه لرحلة العالم الثاني منوم فيفجرونه بأجهزة تحكم عن بعد.
بدت بوادر الردود العنيفة الرافضة للفلم على السفارات الأمريكية في كل من مصر وليبيا وقتل الدبلوماسيين ، وتتصاعد موجات العداء وكالمعتاد هناك من سيستثمرها لتحقيق مصالحه الآنية منها والمستقبلية. لكن السؤال الأهم ألان لما كل هذا ؟ . بماذا أفاد صانعو الفلم المسيحية؟. كيف يجوز لهم خلق كل مشاعر الكره والعداء بين الديانتين . من أعطاهم هذا الحق بخلق مثل هذا الجو المسموم والمشحون بمشاعر العداء والكراهية.
الرسائل العظيمة نبيلة وخالية من نوايا الدمار. ما زالت سمعة المسيحية الشرقية نقية من العداء وداعية للمحبة والسلام أقول الشرقية بعدما لطختها الغربية بحروب وقتال ودمار وظلم وطغيان على مراحل متعددة ليس هنا مجال لسردها. فلما يريد المغامرون تدمير هذه السمعة الطيبة . وتعريض المسيحيين لمزيد من المعاناة في ظل أجواء أصلا متأزمة . فهناك حملات تهجير قصرية في العراق للمسيحيين وكلما امتد تيار إسلامي متشدد ببلد عربي كان المسيحيون أول المستهدفين ان لم يكونوا الهدف الثاني بعد المرأة . فلما يمنح هؤلاء المغامرين مسيحيي الشرق والبلدان العربية على طبق من ذهب لهؤلاء. وختاما هل يبحث صانعي الفلم الفاشل عن مكان لهم بين عظماء المسيحية ممن ساهموا بصدارة وريادة في نهضة الكثير من البلدان العربية هل يبحثون لهم عن مكان بينهم هيهات. الإبداع هو محبة لا يفهمها بالتأكيد صانعو هذا الفلم الرديء.