------------ --------
Share |

من بين السحب



عشرات البحوث . مئات الأوراق . أبنية ومشاريع. مواد وأجهزة. موظفون ومستخدمون. كلفة وعائدات. كلها تعد لعنوان واحد دور العجزة والمسنين. في بعض البلدان التي ما زالت تعيش بقايا الترابط الأسري تعد ذلك من الأمور المخجلة. وتدل عن جحود الأبناء. لكن الأمر يختلف في المجتمعات المتقدمة التي صار فيها الفرد يلتفت لمصلحته الخاصة دون الاكتراث كثيرا للالتزامات الأخلاقية. لكن التعميم صفة ذميمة تدرج في قائمة الإحكام الجائرة والجاهزة التي يطلقها الناس إما بطرا أو جهلا على الآخرينفي بلد متقدم مثل ألمانيا يولي كل مرفق من مرافق الحياة العناية الخاصة،ويشبعها بالدراسة والتحليل والمتابعة يبقى أمرا كهذا ليس قدرا لكثير من الآباء والأمهات. بل قد لا يكون حتى لمن يحتاجون فعلا لعناية استثنائية تتطلب متابعة حثيثة من الأبناء والوقت الطويل من الرعاية. في رصد بعض هذه الصور يتبين لنا كيف أن شمس الوفاء والأمل تتسرب بثقة بأشعتها المبهجة بين كثافة السحب وتطبع في ذاكرة الحياة صورا حية وخلابة تغنيها وتمدها بالأمل.
فهذا فرانك قرر عدم ترك والديه في أي بيت من بيوت العجزة ورغم انشغاله بالعمل كمدرب رياضي إلا انه يحضر لرعايتهم باستمرار وثلاث مرات باليوم يعد فطورهم وغدائهم ويساعدهم في ملبسهم ونزهاتهم. ويقرر بين الحين والأخر أخذهم إلى رحلات استجمام يستمتعون بها.. تقول أمه معلقة على صنيعه: ربيناه صغيرا وأخذناه إلى رحلات عديدة، وأماكن مختلفة ننتظر منه الوفاء عند كبرنا. يساعدها في حمامها مع أبيه كأنهما ولداه، يتناول المنشفة ويجفف شعرها ويلبسها فستانها الباهر الجمال فتشع فيها الحياة وقد تعدت الثمانين لتجلس في غرفة طعام الفندق تتناول إفطارها بسعادة لا توصف.

وذاك ماركو عازف الجلو المقتدر. والمملوء حبا لأمه التي بدأت تصاب بمرض النسيان منذ قرابة الأربعة أعوام يعتني بها كأنها صغيرته المدللة يحمل لها صور العائلة يعرفها كل مرة على شخوصها . أحيانا تلمع في ذهنها الفكرة وتعود بعض الذكريات وأحيانا كثيرة يبدو كأنه يتحدث مع سراب لا يمكنه أن يستجيب. الوضع لا يدفعه للملل أو التبرم يؤدي عمله بكل مودة وامتنان. إنها أمه عازمة الكمان الرائعة التي شاركته سنوات عمره وكانت سيدة عظيمة قبل أن يداهمها مرض النسيان. يعودها ليلا ليغير لها حفاظتها. يغطيها ويضع إلى جانبها الدب الصغير فتحضنه كالطفلة الصغيرة .. يعدها بأنه سيكون بالقرب منها لاحقا .. ترد بشكرا شكرا.. ويجيب بمحبة عفوا عفوا.. في نزهاته معها يأخذها إلى شواطئ هامبورغ حيث السفن والمناظر الخلابة. يقول لها أتذكرين .. لا ترد إلا بنعم نعم.. يرد هي تقاتل أحيانا من اجل أن تتذكر ..لكن قلما تستجيب ذاكرتها. مسكينة أحيانا تنعت نفسها بالغبية والمغفلة لأنها لا تستطيع الاستجابة. يعزف لها أنغاما رائعة لقد ورث منها حب الموسيقى فأصبح موسيقيا لامعا. هل تذكرين ..هل تذكرين الكمان .. ترد بالبكاء نعم نعم.. يتوسلها أن لا تبكي لقد مضى كل هذا تقول له. يرد عليها بحنو : نعم مضى لكنه كان جميلا أليس كذلك وترد عليه بنعمها التي لا تفارق شفتيها بعد أن غادرتها الذاكرة وصارت صفحاتها بيضاء.
مارتين هو من بقي لأبيه الذي صار في منتصف الثمانينات. دائم الحزن تحرقه الذكريات وتسبقه الدموع الحرى لعجزه عن القيام بما يحب من الأعمال بعد إصابته بمرض أقعده. المنجرة التي كان يمضي فيها اوقاتا طيبة في ممارسة هواية النجارة. يأخذه إليها فتسبقه الدموع ..لا يستطيع الوقوف وإكمال الكثير مما كان يفكر بانجازه يساعده مارتين على العمل. وبين كم الحزن والرغبة يبدأ بمسك خشبه وأدوات النجارة. يحلق له كل يوم ويجلسوا جميعا هو وزوجته ووالديه على طاولة واحدة يشكرون الرب على الطعام وعلى الصحبة التي يقول عنها مارتن: بأنها كانت دائما رائعة ووافرة مثل نعمة الطعام.
إنها صورا حية من مجتمع لم تسحقه المدنية وعجلتها بل خرج من بين عجلاتها سنابل يانعة بالوفاء للتقليدي من التربية. وأماكن ظلت شاغرة في بيوت العجزة لان ساكنيها حظوا بفرصة فريدة من بالعناية. باختصار لم يكن أولادهم ناكري الجميل. فحصدوا حسن صنيعهم صحبة طيبة في أخر العمر.
.


هناك 7 تعليقات:

  1. المشكلة ان دولنا المتخلفة لاتولي دور العجزة اية اهمية بحجة اننا نرعى كبارنا ونضعهم فوق رؤوسنا
    هل هذا قانون ينفع في كل حالة
    كطبيب شاهدت بام عيني عشرات من الحالات لكبار السن ملقيين كاثاث مهمل في بيوت ابنائهم
    وماذا عن الكبار الذين ليس لهم ابناء؟
    يجب ان تكون الخدمة ورعاية كبار السن في دور لائقة احدى اهم خيارات التطوع للخدمة الاجتماعية المطلوبة من المتقدمين للوظائف كما يحصل في الدول المتقدمة
    وشكرا للدكتورة شذى على تذكيرنا بالمنسيين في حياتنا
    يونس حنون

    ردحذف
  2. دور العجزة يجب ان تكون "نعيم" لكبار السن في اخر ايامهم لا ان تكون "جحيم"
    لكن مع الاسف عندنا نحن العرب دور العجزة منفى لكبار السن ليس اكثر و الدليل سوء خدماتها و سوء مراعاتهم لكبار السن و عدد زيارات الابناء النادرة لذويهم.
    اتمنى من الابناء ان يتعضوا لان الزمن كفيل بجعلهم كبار بالسن و قد يعيشون ايامهم الاخير منفيون هم ايضاً بأحدى دور العجزة.
    عمار صالح

    ردحذف
  3. معك كل الحق دكتور يونس ..وشكرا لتنبيهي لهذه النقطة المهمة المتعلقة بدور العجزة كحل اخير لمن لا اسرة له. او افضل للاسر التي تعامل كبار السن كانهم اثاث كماوصفت. عرفت سيدة في غاية القوة في السبعينات وهذا عادي في اوربا وتعمل في العلاج الطبيعة كان تملك كل شيء بيتها ورابتها التقاعدي وتدرس اختصاصا جديدا حيث ان الانسان هنا لا يتوقف عن طلب العلم. ثم قررت فجأة الذهاب لاحد هذه البيوت باختيارها وجدته حلا مناسبا لها. لا اعرف لما . ربما ارادت الصحبة التي تلقاها مع الاخرين. المهم انه حتى المجتمعات المادية البحتة ترفدنا بقصص غاية بالانسانية وبلا تبجح او ادعاء بل هو سلوك وخيار الانسان الابن ازاء من كانوا سببا في وجوده.

    ردحذف
  4. دكتور عمار تحية لمرورك الكريم. انما الحياة مسرح كبير هكذا كان الناس يتندر في مقولة يوسف وهبي لكنها حقيقة. انما المشاركة الانسانية تجعل المحطات والعلاقات اكثر بهاءا وتعطي للحياة معاني سامية . لاشك بان الصغار سيكبرون. لكن لا اعرف لما ينسى الانسان في اوقات كثيرة خصوصاعندما يكن مزهوا بشبابه بانه سيشرب من كأس المشيب وستحصد يداه ما زرع بالامس وسيلاقى نفس المعاملة التي عامل بها والديه.نكتب فقط للتذكير والخيار لمن يقرأ

    ردحذف
  5. يا سيدتى
    اسمعت لو ناديت حيا ولاكن لا حياة لمن تنادي
    اين المسؤلين عن هذا الامر حقيقة موضوع مهم جدا
    عجبي!! على المسؤل الم تكن هذه امه والم يكون هذا اباه
    ولكن الكل على الاعمال الانسانية تكون اعينهم عميا واذنهم طرشة
    شكرا الك

    ردحذف
  6. عزيزتي الدكتورة شذى، خدمت المعوقين والعجزة لثلاث عشرة سنة متواصلة تطوعاً لوجه ضميري( في بلاد الأجانب طبعاً) وأقول طبعاً لأن ما لدينا لا يرقى إلا لمأوى من التشردوالرمي على الطرقات ، بينما هي بيوت السعادة وأماكن تشبه النوادي الترفيهية والتعليمية في بلاد الغرب الذين علموا من معارفنا بعملي التطوعي هذا ارتفعت حواجبهم دهشة أن أختار هذا العمل ( المزري ) الذي لا يقوم به إلا الخدم !!نحن بلاد الدين رحمة ، وأغث الملهوف ، وارع اليتيم ، ثقافتنا متدنية جداً في هذا الأمر , وكيف تريدين أن يفهموا وهم يستعبدون الخدم في بيوتهم وينظرون للعمل اليدوي نظرة احتقار، بئس ما يُلقن أولادنا في بيوتهم ومدارسهم , بيوت العجزة الحل الأفضل لكبار السن , في هذا الوقت الذي زادت فيه معدلات الهجرة ، والسعي وراء لقمة العيش في أماكن بعيدة ، لذا تظل مثل هذه البيوت مشروعاً ناجحاً ومضموناً وانسانياً, الصور المرفقة بالمقال ذكرتني بتلك الأيام الحلوة فشكراً لك يا عزيزة ودمت بخير ليندا

    ردحذف
  7. مازن البلداوي26 يناير 2011 في 3:42 ص

    العزيزة د.شذى
    احترامي سيدتي
    ماذا لو كان فرانك وماركو يعملان في مدينة اخرى،او ان مارتن يعمل بنظام عمل يبدأ منم الثامنة صباحا الى الخامسة عصرا؟ لاندري كيف سيكون رد فعلهم!
    وعلى الرغم من هذا فان الصورة رائعة وسط مجتمع لم تسحقه المدنية وافرزن من بين عجلاتها سنابل يافعة ازدهرت واورفت،اعتقد ان العلاقات الأجتماعية الأسرية تعتمد كلية على طبيعة التنشئة المنزلية وطبيعة العلاقة بين الوالدين والأبناء،على الرغم من انه ليس بالضرورة ان تكون النتائج ايجابية دائما،لأن هنالك فترة معينة في تاريخ بناء الأنسان وهي الفترة الممتدة من 12-18 سنة،مهمة جدا في تشكيل شخصيته ومن اهمها في تعريف معنى الحب تجاه الأخرين وتعريف مقداره تجاههم.
    نحن كمجتمعات عربية م المفروض ان نكون اكثر رعاية للوالدين بداعيين اثنين، التراث والدين،الا اننا نجد ان هنالك اختلاف كبير عن المفترض ،اتفق معك بان ماذكرتيه كسحابات الصيف التي لاتمطر،الا انك قد حمّلتيها ماءا فامطرت حنانا واجبا على من يعي.
    تحياتي

    ردحذف

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

-----
Share |
------