------------ --------
Share |

رقبة الزرافة



هدايا الميلاد

ـ رقبة الزرافة ـ

تعجبت العجوز من سرعة انجازه للعمل وتقنيته في نفس الوقت .أرادت التعرف عليه أكثر فسألته بود: هل ترغب بفنجان قهوة. هل أنت ممن يحب شربها؟.
رد بابتسامة عذبة: أصبحت ..صرت من شاربيها .. منذ جئت إلى هنا.
ـ جئت للدراسة
ـ بل أناAsylbewerber لاجئ
ـ منذ زمن طويل. فأنت تتحدث الألمانية بشكل مقبول
ـ منذ سنوات قليلة سيدتي.
ـ من أين أتيت.
ـ من بلد يدمر كل يوم
ـ أفغانستان. العراق؟
فرت من فمه ابتسامة مريرة ورد عليها: من العراق. تابع يسرد قبل أن تسأله عن التفاصيل لكثرما أثارت تفاصيل حياة الأجانب اهتمام السكان وسألوه عن أسباب هجرته...قبل احتلال العراق كانت الحياة صعبة كلنا كنا نتمنى إما رفع الحصار أو موت صدام. لكن مع الاحتلال صارت الحياة العن. أصبحت البلاد فوضى وقتلوا الكثير منا .جاءت مليشيات الموت وصارت تنتقي منا من تريد التخلص منه وقتله.قتلوا أخي الأكبر. وأبناء عمومتي. ثم داهموا بيتنا وقتلوا أمي وأختي الصغيرة. ليلتها كنت في بيت خال لي في طرف أخر من المدينة أرسلتني أمي لجلب بعض المال ما منع موتي إنني لم أكن هناك . عندما رجعت كان المكان مدمرا سرقوا وكسروا كل شيء اخبرني جاري بأنهم تكفلوا بدفن أمي وأختي الصغيرة. حتى أوراقي احرقوها وخفت البقاء. هربت إلى الموصل ومنها استطعت الهرب إلى تركيا عملت لمدة سنة.بعدها تمكنت من المجيء إلى هنا سرا .يشترط المهرب منك مالا حسب البلد الذي سيأخذك إليه. كلفت سفرني إلى هنا خمسة ألاف دولار دفعتها له فأوصلني مع آخرين إلى أوربا ومنها توزعنا في بلدان عديدة.
تنهدت العجوز بأسى وهمهمت بكلمات كمن يحدث نفسه.. ليس كل الناس سعداء كما تظن أيها الشاب. لي بيت . ولا يهدد حياتي احد . وأتمتع بحياة هادئة لكن الحزن ينخر عظامي.نظرت إليه واستشفت انه لم يفهم بعض ما قالت فراحت تشرح له بالحركات ما تعنيه. فأومأ برأسه باسما وشاكرا للطريقة التي تحدثه بها. ضغطت على كلماتها وراحت تطيل بجملها وتبسطها.. لي ولد بعمرك غادرني إلى أمريكا قبل أكثر من عشر سنوات. بعث لي في البداية بعض الرسائل وبعد سنتين انقطعت أخباره . خفت عليه أرسلت العديد من الرسائل . خاطبت بلدية المدينة التي راسلني منها دون جدوى . كل شهر اكتب رسالة وابعثها على عنوانه ولي أمل أن يرد لكن دون جدوى.
ثم كمن استفاق من غيبوبة. هل تريد مع القهوة أن تأكل قليلا من Weihnachtsplätzchen هز الشاب رأسه مستفهما. فعرفت بالحال
انه لم يفهم قصدها ذهبت إلى المطبخ أراد اللحاق بها لمساعدتها أشفق على سنها. لكنه تذكر احتمال سوء الظن به. لما عادت سألها : هل كنت ستظنين بي السوء لو تبعتك للمطبخ.
تطلعت به قليلا ثم ابتسمت قائلة: أنت في بيتي أيها الشاب وان كنت سأظن بك الظنون ما أدخلتك . اعرف إن السيئين في كل مكان. لكن المجازفة في بعض الأحيان تمنحنا فرصة جديدة في إعادة تقيمنا للناس
وتجنبنا الأحكام المسبقة و تهجأت الكلمة... Vorurteil...
ثم تناولت قاموسا من احد الرفوف المكتظة بالكتب وناولته إياه ستجد معنى الكلمة بالانكليزية هل تجيدها. أجاب بسرعة: جيدا فانا مهندس قالها بانكليزية سليمة وأنيقة جعلتها تفتح عينيها دهشة، وتنظر له بحنو زائد.
هز رأسه وهو يقرأ معنى الكلمة فلطالما عانى من سوء الفهم، وتجني الآخرين والنظرة الاستعلائية خصوصا من الأجانب بقومياتهم المختلفة حتى من العرب والعراقيين لم يمنع نفسه من التفكير بذلك.

هيا دعنا نشرب القهوة. استلذ الشاب بقطع الحلوى اللذيذة. ابتسم وهو يقول لها: كانت أمي تصنع لنا كعك العيد لكن قطعه اكبر من هذه بكثير وتكفي اثنان أو ثلاثة ليشعر احدنا بالشبع.
ضحكت ـ انه ليس وجبة طعام نحن نتناول الحلويات عادة ك Nachtisch
ولذا فهي ليست وجبة طعام . رد على الفور: اعرف اعرف هذا تماما.
ـ هل أنت جائع
ـ لا لا أشكرك تناولت إفطارا دسما لا.. شكرا اشعر بالشبع. احمرت وجنتاه خجلا وهو يفكر بان العجوز فهمت تعليقه على انه طلب طعام.
ـ لما أنت شديد الحساسية؟.
ـ ماذا تعنين؟
تهجأت الكلمة و أشارت إليه للبحث عنها بالقاموس. رفع رأسه إليها بعد قراءة الكلمة وهو يقول: لا اعرف. تربينا هكذا. وتابع بانكليزية صافية. من الأشياء المشينة في تربيتنا طلب الطعام في بيت احد . ولكن من المعيب أكثر أن لا ندعوه إلى الطعام لو كانت زيارته في أوقات الوجبات أو قريبة منها.ولا ننتظر أحيانا كثيرة منه الرد بالقبول أو الرفض نحسب حساب انه سيشاركنا في وجبتنا وينتهي الأمر. استمر الشاب يشرح للعجوز بعضا من عاداته وتقاليده وهي تزداد فرحا به. حتى إذا ما شعر بان مقامه طال نهض بسرعة قائلا: عفوا. أظنني أطلت شكرا للقهوة والحلويات اللذيذة.
ـ هل أنهيت كل شيء
ـ نعم سيدتي يمكنك أن تراجعي ذلك بنفسك .
ـ حسنا. هل عندك وقت مساء الغد
ـ عفوا
ـ أريد أن نذهب سوية لأحد أسواق إلWeihnachtsmarkt
ـ شكرا لك ..
ـ لا عليك . منذ ما يزيد عن عشر سنوات حرمت من هذه النعمة . أفرحني باصطحابك لي .. عندها سأشعر كان ولدي قد عاد.
تحشرجت الكلمات في فمه وخنقته العبرة . تذكر أمه الحبيبة التي قتلت غيلة . و الألم الذي تعلو رأسه لا يحتاج إلا لمن يدفعه بإصبعه حتى يتهاوى على جمجمته ليهشمها.

وصل في تمام الساعة السادسة كما اتفقا. وكان مترددا في طريقة اصطحابها وعلى أي الجهتين يسير وماذا يفعل .. أحست بحرجه فراحت تحدثه عن الحي .وتقص عليه طرائف ساكنيها. حتى تبدد قلقه و إحراجه ولم يشعر بأحد أخر . استقلا القطار المتجه إلى المدينة ولم يجد إلا مقعدا واحدا في أخر العربة. سارع بحجزه لها. وسط دهشة الجميع منه. تقدمت شاكرة له . جلست وظل واقفا فوق رأسها. لكنها لم تتوقف عن الحديث معه. وحاول قدر الإمكان تجنب الرد عليها.فطنت لذلك فأدارت حديثها بانكليزية تعجب من فصاحتها. وظلت الوجوه تتطلع لهما لتخمن المتحدثين وجنسيتهما فلقد كانت العجوز تتحدث الألمانية لتوها وباللكنة المحلية. وصلا السوق في الساعة السابعة كان البرد شديدا. وسحب البخار الأبيض ينفثها المتحدثون كأنهم سحرة. هل تشرب ال Glühwein
ـ ما هذا
ـ نوع من النبيذ الساخن يقدم في هذه المناسبات سيدفئك
لم يمانع وبعد أن رشف عدة رشفات أحب طعمه. وأحس بالدفء يدب في أوصاله.كانت تتنقل به من كشك إلى أخر في السوق الذي اختلطت به الألوان والروائح والعطور من كل نوع ومكان. وتفنن الباعة في إحضار أفضل ما عندهم لإبهار الزوار وإقناعهم باقتنائه. تعجب للمصوغات . والزجاجيات الملونة. وهذه الألعاب. ظلا يتنقلان ما يقارب الساعة ثم سألته : هل جعت. أنا جائعة . دعنا نأكل شيئا. ضحكت ورد عليها بضحكة واستمر ضحكهما بعض الوقت حتى ألفيا نفسيهما أمام حانوت بيع الأطعمة الأسيوية التي تنتشر بكثرة في مثل هذه الأسواق. طلبت وجبتها بلحم الدجاج أما هو فطلب المعكرونة الصينية مع لحم البط المحمص. كانت الأبخرة المتصاعدة من كل صحن تكفي لتشعر المرء بالجوع الشديد. ناولها الشوكة البلاستيكية وبدءا يأكلان .
ـ ماذا كنت تحب من الألعاب وأنت صغير
ـ الكثير من الألعاب أحببتها . ولعبتها
ـ هل تمنيت لعبة ولم تحصل عليها.
ـ تمنيت شيئا أخر ,وليس لعبة
ـ حقا ما هو
ـ تمنيت ركوب زرافة
ـ ماذا تركب زرافة؟.
ـ نعم كنت صغيرا عندما رأيت الزرافة أول مرة في التلفاز . وأحببتها. وتمنيت لو استطعت تسلق زرافة و التزحلق على رقبتها. كنت أتخيل ذلك دائما . أغمض عيني واحسب بأنني أتزحلق على رقبة زرافة.
ـ إلى اليوم تحب ذلك
ـ ما زلت أحب الزرافة.زرت حديقة الحيوانات هنا. ورأيت الزرافة. كانت بعيدة ولكنني لم اكف عن التفكير في تسلقها والانزلاق عن رقبتها. ضحكت العجوز فتطلع لها بعناد طفل وشاركها الضحك.
تناولا طعامهما،ثم سارا قليلا. وصلت العجوز إلى احد محلات بيع الألعاب.
ـ هل يمكنك آن تنتظرني هنا قليلا.
تسمر الشاب في مكانه ونظر إليها مستفسرا
ـ سأعود بعد دقائق يمكنك التمتع بمشاهدة سباقات الأطفال أنها رائعة. بعضهم يحرز نتائج مذهلة غير متوقعة في الألعاب.
بعد خمس دقائق ربتت على كتفيه استدار فإذا بها تحمل دمية كبيرة لزرافة جميلة . دفعتها إليه بسرعة وهي تقول: هذه زرافتك الخاصة يا صغيريWeihnachtsgeschenke يمكنك أن تنزلق كما تريد على رقبتها.
كانت الزرافة بحجم المتر ونصف المتر حتى صعب عليه حملها. أخذها يمينا واعتقد انه من الأفضل لو حملها من الوسط فلم تجدي محاولته نفعا.فأخذها من رقبتها وألقاها على ظهره.
ثم أحس بنبضات قلبه تتسارع من الفرحة والدهشة. ثم كمن نسي شيء قال مستدركا: شكرا ..شكرا جزيلا.


في إحدى الزوايا وقف ليستعيد أنفاسه ربتت عليه قليلا وهي تقول له: بل أنا من يشكرك.أسعدتني بصحبتك .أنت شاب مرح . ومؤدب. وحققت لي حلم اكبر بكثير من الحلم الذي قدمته لك ربما لأنك أكرم. ألقى بالزرافة أمامه وهو يشعر بحنين عاصف لأمه . ولمنطقته . وسمع أصوات أصدقائه وهم يسخرون من حلمه عندما اخبرهم برغبته في تسلق رقبة زرافة. خرت دمعة من عينيه فانزلقت على رقبة الزرافة . رفع رأسه إلى العجوز، فرأى عينيها تردان بدمعتين التمعتا في تلك الليلة الباردة . بينما تصاعدت أصوات الصبية وهم يغنون مع المهرج بعض أغاني العيد.










هناك 4 تعليقات:

  1. مازن البلداوي30 ديسمبر 2010 في 8:02 ص

    قصة جميلة،وتحكي واقعا قد حدث فعلا،او هي تعطي انطباعا مثل هذا............تنفع جدا ان تكون مرجعا بعلم الناس كيف هو التعامل بين الناس
    تنفع جدا ان توضح للبعض كيف ان سلاح الصدق والأدب اكثر نفعا من التلون
    تعلمهم ان الأنسانية هوية للأنسان لادخل لها بدينه وقوميته او مذهبه.

    سلمت يدك
    دمتي بخير

    ردحذف
  2. قصة أكثر من رائعه ..د شذى .
    أتمنى أن تكون القييم الأنسانيه أساساً لتعامل البشر .
    ولكن الواقع ..........
    على أية حال ..أعقتد أن أمثال هذه السيده الطيبه لم يعد لهم وجود الأ في القصص .
    ذكرتني قصتك بوالدتي وروحها النقيه ..
    يبدو أننا في زمن قلما يدعو أحد فيه غريب على قهوة أو طعام وربما تكاد تختفي هذه العادات الجميله التي لازلنا نتذكرها ..نحن في زمن رفض الآخر ، عدم قبوله والأسباب متنوعه ، زمن ثقافة التسقيط ، الأنتقاص وتبادل الأتهامات ...أصبحنا نفتقد لغة حوار أجمل من كل اللغات ...اللغه الأنسانيه أو الحس الأنساني الذي جمع هذه السيده الحنون مع غريب قد يكون لايشبه ولدها في شيئ ..
    كل عام وأنت بألف خير ياصديقتي وقراء مدونتك ومحبيك بخير وسعاده .
    زينب

    ردحذف
  3. اتمنى ان يمر ثانية اصدقائي لقراءة ردي حتى وان كان الامل بسيطا ساكتب
    صديقي مازن ممتنة لمرورك وتعليقك وما زال الكثير يمتعون ويستمتعون بالحياة لكن للاسف يطفو على السطح دائما الاعمال المشينة لان لها صجيج يصم الاذان

    ردحذف
  4. صديقتي زينب اهلا بك .. الكثير من الطيبين في هذا العالم يصنعون الفرح ويساعدون بصمت. انت منهم ومن معرفتي الشخصية بك اعرف اي معدن ثمين انت . عاما سعيدا لا ينال به المفسدين والاشرار من عزيمة الخيرين امثالك. دوما على الطريقة العراقية كل الهله بيك وبزياراتك الغالية على القلب

    ردحذف

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

-----
Share |
------