ام جلال
اصحاب الجلالة والسعادة والنيافة والرفعة والفخامة و.. سيداتي صاحبات الصون والرفعة
والعفة المبجلات... سادتي القراء بكل مشاربهم من اعلاكم قدرا"، وعلما" ، ومنزلة" وشهرة"في الحياة الى ابسطكم وافقركم مثل حالي لكم التحية وانتم منشغلون كما ارى الساعة في قاعة يومكم البهي تفتحون ادراجا" مغلقة.. تسبرون اغوارا" عصية ، تصطادون لؤلؤا" من الافكار والعبارات والغريب كي تعرضوه على الاخرين حال اكتمال اعداده ، تخالفون هذا وتدحضون ذاك . تقرعون رأي وتعضدون اخر. صاخب مهيب هو مجلسكم الكبير الفخم البهي .. ورائعة حلل انجازاتكم مفكرين وكتاب شعراء وادباء في كل فروع الادب والفن والمعرفة .. لكن حافية مثلي تريد ان تستأذنكم بصوتي الضعيف الخافت الذي يزيح لتوه صدى الايام عنه لقد منعوني من استخدامه سنوات عمر سحيقة لانه عورة وعليه ان يبقى في قمقمه ولا فانه سيزني. ولاني اثق به واحترمه فلقد قررت ان اطللقه ليحقق امنياته بالحديث اليكم اولا" ولاخرين امثالكم في اماكن اخرى ربما بعد حين ، ولانه مني فسيكون من العبث الظن به سوءا"
سيداتي سادتي
اريد ان اتحدث معكم اليوم عن صاحبتي هذه التي واعدتها لنلتقي هنا في قاعتكم الفسيحة المليئة بزهور الحرية والممكن والاحكام غير المسبقة. فاعذرونا فنحن الاثنتان لسنا على قدر كبير من الغنى ، ولكننا نحلم مثل كل شعوب الارض وهي تستمع لرؤسائها وممثليها باننا مهمون لهم ومصدر عنايتهم حتى ونحن نرفل باسمالنا البالية احيانا كثيرة.
دعوني اعرفها لكم ان سمحتهم انها ام جلال ليست اديبة ولا خطيبة ولا سياسية لامعة ، ولا مناضلة في حزب كبير او صغير . ولا تمثل تيارا" سياسيا" او فكريا" محددا" وربما لا تعرف حتى ماذا تعني الاحزاب ، ولا تعرف من نضالات المرأة وكفاحها لانها باختصار شديد ليس لديها في بيتها اي من اجهزة الاعلام المرئية او المسموعة ، ولا اعرف ان كانت تعرف القراءة والكتابة . ولا اعرف اقسم لكم اغلظ الايمانات التي أأمن بها ان كانت شيعية او سنية . ولا اعرف ان كانت حتى عربية ام كردية .
لم اسألها يوما"عرفتها والتقيت بها زمن كان العراق لكل العراقيين ، وزمن كان لا احد يسأل ويعرف او يهتم بالهوية الدينية ,والعرقية للآخر او يقيم لها وزنا" . عرفت ام جلال وهي تزور بيتنا لصداقتها مع احدى نسائه .. لفت انتباهي اول الامر هدوئها وكلماتها الحنونة، ورغم ان كلمات المجاملة شيفرة حادة تقطع لسان ناطقها ان لم تكن صادقة ومن الصميم لكنها كانت تستحوذعلى محدثيها بالبساطة والطيبة وهي تحدثهم ، وكانها شخصية خرافية لراوٍٍ محنك.
ام جلال لديها خمس بنات وجلال.مصدر تعبها وقلقها الوحيد هو ابنها كانت تتحدث عنه بشيء من الاسى والحزن ، وكان يبدو عليه التمرد لكنه لم يكن خارج نطاق السيطرة ، اما بناتها فكن يتمتعن باعلى قدر من الجمال والنجاح اكرر النجاح لم اخطئ ولا اعاني القطع ـ على الاقل في هذه اللحظة ـ في السرد.فبناتها التي يتوزع جمالهن بين الاسمر والاشقر. وبين انوثة متفجرة كنً على قدر كبير من النجاح في حياتهن المهنية، ولقد اخترن وهذا ايضا" من روعة الحياة مهنة الملائكة وتخرجت الواحدة منهن تلو الاخرى من مدرسة التمريض بتفوق الاولى. وسافرت الصغرى في احدى المرات في بعثة لمدة نصف سنة الى لندن للتدريب في مستشفياتها ، وعادت وهي تتحدث عن نساء صادفتهن هناك واعجبها طريقة حياتهن ومنهم عاملة الفندق الذي نزلت به وعديد الصور التي التقطتها معها وكيف انها كانت تعمل في التنظيف في الفندق وفي نفس الوقت تكمل دراستها في احدى الجامعات . لم تتغير ولم تصرعها مدنية لندن عادت بما ارادت الذهاب به التدريب والخبرة . عادت الى بيتها الذي كنت كلما زرتهم به لم اجد واحدة منهن تطأطأ راسها خجلا" واسستيحاءا" منه.
لم يكن البيت اكثر من غرفتين بسيطتين ومطبح بمساحة متر او على الاكثر متر ونصف يحتل زاويته الوحيدة الطباخ النفطي الصغير . وقدر صغير والى جانبه بضعه اواني والحق افول لكم لم ارى يوما من الايام رغم زياراتي المتكررة لأم جلال ذلك الموقد مشتعلا" كان كل شيء نظيف ومرتب وهاديء!.وفي الغرفة التي تقاسمتها البنات بسط خفيفة وبضع مخدات وحضور طاغ لام جلال ورائحة زكية تنم على اعتناء غير اعتيادي بالنظافة في هذا البيت المتقشف . لم تكن ام جلال تملك المال الكافي لشراء اثاث البيت والدنانير القليلة التي كانت تكسبها من العمل في تنظيف بعض بيوت الاثرياء كانت تدفعها لبناتها اجرة ومصاريف دراسة ، و.....ويذهب بعضها اجبارا" لما ساخبركم به لاحقا" .
ام جلال لم تعاب يوما" على طريقة الامثال الشعبية عندنا في بناتها تزوجن خيرة الشباب وخرجن من البيت البيسط شبه الفارغ الى مستويات اجتماعية اخرى بعدما حظين بازواج مرفهين من حسن حظوظهن وصرامة ام جلال الناعمة. لم تكن تلك المرأة تملك عصا غليظة ولم يكن لها اسنانا" حادة"،ولم التقيها يوما" غاضبة او متبرمة كانت كل اسلحتها حباب سبحة تكرها على الدوام توزع فيها الامل والابتسامة والاحلام على كل من تلتقية كما كن بناتها يوزعن النصائح الطبية والارشادات بمحبة وتلقائية ورثنها او ربما تدربن عليها من امهن . لم تكن ام جلال تتقاضى اي مبالغ من احد ترفضه باصرار ولسان حالها يقول الحمد لله انا في احسن حال .. وهي لا تملك ثمن كاس شاي في البيت او ربما ان توفر الشاي والسكر فلن يتوفر النفط الكافي لصنع الشاي. تقول لك الان سنعد الطعام وانت تعرف انه لن يعد وتنسحب بحياء وخجل لانك لاتريد ان تجرح كبرياء التعفف باي حال من الاحوال . ربما تتناول ام جلال بعض وجباتها في بيوت الاغنياء . وربما كن بناتها الجميلات يتناولن طعامهن في مدرسة التمريض. ليس هذا ما كان يثير تساؤلي بل تلك الكدمات التي كنت اراها ظاهرة على وجهها ولا اجروء على سؤالها عنها احتراما" لها ولهيبتها. لطالما ظلمني البعض في محل عملي بالجريدة ، وتضايقت منه . او لم استطع الرد على وقاحة احدهم تحرش بي ، والمتبع ان انا ناصبته العداء فسيكلفني ذلك ربما راحتي في العمل في احسن الظروف او وظيفتي وكنت اسكت على مضض واتجنبه وانا اغلي اريد ان امزقه او على الاقل ابصف بوجهه وذلك اضعف الايمان!. لم اكن اتمكن من ذلك فاختار زيارتها صباحا" قبل الذهاب الى العمل واواسي نفسي بكلماتها وهي تعدني بمستقبل باهر ونجاحات ساحقة ربما لم تتحق اغلبها لكنها كانت تفرحني، وانا بداخلي متأكدة بانها مجرد اقاويل . ربما لانني اشعر بالخجل من صبرها وجلدهاعلى مصاعب الحياة .
اتذكر ام جلال كثيرا" كلما كبرت بنتي وزادت مشاكل رعايتي لها ، وتعقدت وسائل تربيتي لها وزادت هي انتماءنا لعالم اليوم الذي يحظر الحديث عن المحظورات. كلما فرغت من قراءة دراسة تتحدث عن التربية الحديثة وطرق اتباعها مع الاولاد زدت حيرة ، وتبلبلت افكاري. بعضها شديد الغرابة والاخرى تبدو غير مناسبة على الاطلاق . فانا لست موزعة على اقل تقدير بين خيارات متعددة من الشركاء كي اتبع طريقة مثالية بجعل ابنتي تتقبل شركائي برحابة صدر. ولا ارتاد المراقص والا ارغب بارتيادها على اي حال. وليس لدي نية بتشجيع اولادي على ارتيادها .. والحرية الجنسية لا زالت من اكبر الالغاز والاحجيات في جدول اعمالي اخصص له وقت من هنا حتى حين استعداد اولادي للمطالبة بها. لكن في كل هذا المتلاطم من الافكار والخيارات تشخص لي ام جلال بهيبتها وغطاء رأسها الاسود الجميل ومكتبتها الفطرية العامرة بالثقة والتروي وحسن الاقناع وسلامةالاختيار ونجاحها في التربية ،واتسائل كيف لإمراة مثلها لم ارها يوما" تقرأ اعلانا" ان تحقق نتائج باهرة بالتربية اخفقت بها مارغريت تاتشر المرأة الحديدة التي لثم سيرتها تعاطي ولدها وادمانه المخدرات . كيف لهذا البيت الفقير الاثاث والغني بسيدته ان يخرج من اكاديمته الرفيعة سيدات مجتمع ناجحات وزوجات صالحات بينما لا ينجب البيت الملكي في بريطانيا الا ملكا" سفاحا" وعربيدا" مثل هاينرش الثامن!. كيف . لماذا لم تستسلم فتيات يافعات مررن بكل مراحل العمر التقليدية من طفولة الى مراهقة الى شباب لاغرائات الحياة ، وهن على اعلى قدر من الفتنة ولكنهن بقين مثل اميرات البلاط الصيني هادئات ، قنوعات خجولات ،، ومثابرات على التعلم!.
لماذا لم يتعقدن وينحرفن مثلما تخبرنا به كل حكايات الافلام الهابطة منها والمهمة لان الاب كان عربيدا" سكيرا" يضرب امهن لاي سبب ويأخذ ما عندها من المال ليعب به كؤوس الخمر . لماذا تهتم احداهن بالشرف والنجاح والمهنة والسمعة وابوهم يلوث كل ذلك بسوء تصرفاته وادمانه؟
لم اجد اجابة كافية .. وكلما بحثت عن سبب في بطن كتاب او مقال عادت بي ذاكرتي لحبات سبح ام جلال .. ماذا ياترى وراء حبات سبحتها اي الاسرار واي الطلاسم السحرية اخفتها هذه المرأة بين حبات سبحتها التي لا يزيد سعرها عن بضع دنانير ..ولو كنا في السابق لقلنا دراهم.
لهذا اتيتكم بام جلال الى مجالسكم البهية المزدانة بالحكمة والمعرفة والمقدرة على التحليل علكم تساعدوني على اكتشاف ومعرفة ما لم استطع معرفته من سر هذه العراقية الام ، والمربية التي نجحت بما اخفق به الكثير ، وهنأ بالها بينما الفشل والهزيمة يلازمان الكثير لسوء ما ال اليه حال بنيهم.
انها تستحق ان تكون بصحبتكم وانتم تحيون امجاد عيد المرأة .. فهي على الاقل من وجهة نظري لاتقل عظمة ونجاحا" عن الكثيرات الرائدات اللاتي يزين جيد ذاكرتكم الوفية لما قدمته المرأة وستقدمه على الدوام.
د . شــــــــذى احمد
شذى احمد
shathaah@maktoob.com
الحوار المتمدن - العدد: 2933 - 2010 / 3 / 3
المحور: الادب والفن
راسلوا الكاتب-ة مباشرة حول الموضوع
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.